فصل: مسألة يعطى الشيء في السبيل مثل الفرس يحمل عليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الرباط أو الغارات في أرض العدو أيهما أعجب:

ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة:
وسئل مالك أي ذلك أعجب إليك: الرباط أو الغارات في أرض العدو؟ قال: أما الغارات، فلا أدري كأنه كرهها؛ وأما السير في أرض العدو على الإصابة- يعني إصابة السنة فإنه أعجب إليّ. قلت له يا أبا عبد الله إن عندنا مدائن على البحر، وإنها قد ضيعت من الغزو وفيها جماعة حشو من نساء وصبيان، ويخاف عليهم؛ أفرباطها أعجب إليك؟ أم الدخول في أرض الروم؟ قال: ما زالت الولاة يضيعون مثل هذا، وما يدفع الله أكثر، وما في هذا حد، وما زال الله يدفع وما في هذا حد، إلا على ما يرى من ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إن السير في أرض العدو على إصابة السنة أعجب إلي من الرباط، وهو مثل ما روي عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكا يقول: الغزو على الصواب، أحب إلي من الرباط؛ والرباط أعجب إلي من الغزو على غير الصواب؛ ولا إشكال في أن الرباط أفضل من الغزو على غير الصواب، فقد قال معاذ بن جبل: الغزو غزوان: فغزو تنفق فيه الكريمة وتياسر فيه الشريك، ويطاع فيه ذو الأمر، ويجتنب فيه الفساد؛ فذلك الغزو خير كله؛ وغزو لا تنفق فيه الكريمة، ولا تياسر فيه الشريك، ولا يطاع فيه ذو الأمر، ولا يجتنب فيه الفساد، فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا، وإنما الكلام في الغزو على الصواب، فجعله مالك في هذه الرواية أفضل من الرباط. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين، فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين؛ ولا ينبغي أن يحمل هذا على أنه اختلاف من القول، إذ لا يصح أن يقال إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل، فيحمل قول ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على أن ذلك عند شدة الخوف على الثغور، وخوف هجوم العدو عليها، وما روي عن مالك من أن الجهاد أفضل عند قلة الخوف على الثغور، والأمن من هجوم العدو عليها، وذلك بين من قول مالك في هذه الرواية، لما ذكر له تضيع المدائن التي على البحر، والخوف على من فيها من النساء والصبيان؛ قال: ما في هذا حد، إلا على ما يرى من ذلك؛ ومن قوله في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات بعد هذا: أن جهاد المصيصة أعجب إلي من الرباط، إلا إذا خيف على موضع الرباط، ولم يكن فيه غناء، وقد قيل: إن قول ابن عمر حين دخل الجهاد ما دخل، والتأويل الأول أولى- والله أعلم، وإنما كره مالك الغارات في الرواية استثقالا لاسمها لا لمعناها إذا كانت على وجهها، وهذا نحو من «قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لما سئل عن العقيقة: لا أحب العقوق» كراهية الاسم. وقال: «من ولد له ولد، فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل».

.مسألة الإبرة أهي من الغلول:

وسئل مالك عن الإبرة أهي من الغلول؟ فقال إن كان ينتفع بها، فلا أرى ذلك- يعني لا بأس بالانتفاع بها، كما ينتفع بالجلود للنعل والخف وما أشبهه يرفع به ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أن الإبرة إذا أخذها للانتفاع بها- ولم يأخذها مغتالا لها، فليست من الغلول، وليس عليه إذا قضى حاجته بها أن يردها في المغانم، إذ لا قيمة لها ولا يقبلها منه صاحب المغانم؛ وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أدوا الخياط والمخيط». كلام خرج منه على التحذير من قليل الغلول وكثيره، إلا أن هذا القدر على الحقيقة يلزم أداؤه ورده إلى الغنيمة، وقد قال مالك في رسم كتاب الغزو من سماع أشهب في الذي يأتي بالكبة من الخيط يشتريها بدانق فيطرحها في المقاسم، هذا شيء يراءون به، وما هذا التضييق على الناس؟ فهو يبين ما قلناه في معنى قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «أدوا الخياط والمخيط». من أنه كلام خرج على التقليل، كقوله في الأمة إذا زنت في الثالثة بيعوها ولو بضفير. وكقوله: «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة». ومثل هذا كثير.

.مسألة يحمل رمحه وسلاحه في الغزو ومعه من يحمله له:

وسئل مالك عن الرجل يحمل رمحه وسلاحه في الغزو ومعه من يحمله له، فقال: لا بأس بذلك، فقيل له ويحمله غلامه فقال لا بأس بذلك، ولعله يكون ذلك خيرا له؛ وأقوى له إن احتيج إلى قتاله ألا يتعب نفسه، فما أرى بذلك بأسا، وأراه حسنا يحمله غلامه ويحمله عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن ذلك جائز لإكراهه فيه، بل هو حسن من الفعل؟ لما فيه من إبقاء قوته لوقت لقاء العدو، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالفطر في رمضان في سفره عام الفتح، وقال: تقووا لعدوكم. فالتقوي للعدو بكل ما يقدر عليه مرغب فيه ومندوب إليه، وبالله التوفيق.

.مسألة أموال الرهبان في أرض العدو:

وسئل مالك عن أموال الرهبان في أرض العدو، قال: يترك لهم من ذلك ما يصلحهم، والبقرتان تكفيان الرجل؛ ولو قبل قوله لادعى الشيء الكثير، ولكني أرى أن يترك لهم ما يصلحهم.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الرواية، أن الرهبان إذا وجدت عندهم الأموال، وادعوا أنها لهم ولم يعرف صدق قولهم، لم يصدقوا، وترك لهم من ذلك ما يصلحهم؛ والبقرتان تكفيان الرجل، وذلك بين من قوله ولو قبل قوله لادعى الشيء الكثير؟ وأما إذا علم أنها أموالهم فلا يؤخذ لهم منها شيء- وإن كثرت على ظاهر ما يأتي في رسم اغتسل بعد هذا، وهو نص رواية ابن نافع عن مالك؛ فليس شيء من ذلك باختلاف من قول مالك في العتبية أو سحنون، ويذهب إلى أنه لا يترك للراهب من ماله إلا ما يستر عورته من الكسوة ويعيش له الأيام من الطعام؛ قال: وكذلك يترك للشيخ الكبير مثل ما يترك للراهب، وهو نحو قول مالك في المدونة؛ وقد كان بعض أهل النظر يقول معنى هذه الرواية أنه لا يترك لهم من أموالهم وإن علم أنها أموالهم، إلا ما يصلحهم: البقرتان للرجل وشبه ذلك نحو قول سحنون، وما في المدونة خلاف ما في رسم اغتسل من أنه لا يؤخذ لهم من أموالهم شيء، ومنهم من كان يقول معنى ما في رسم اغتسل أن ذلك يسير بقدر ما يصلحهم، نحو قول سحنون، وقول مالك في المدونة، وما في هذه الرواية فلا يأتي في المسألة على هذا التأويل اختلاف، والصواب ما بدأنا به أن ذلك ليس اختلاف من قول مالك في العتبية، وإنما الخلاف قول سحنون وما في المدونة والله أعلم، وبه التوفيق.

.مسألة لبس الحرير للجنود:

قال: وسئل مالك عن رجال بالإسكندرية يتهيأون يوم العيد بالسلاح ويلبسون عليها ثيابا من حرير ليتهيبوا بها العدو. قال مالك: ما يعجبني لبس الحرير، ولم ير ابن القاسم بأسا أن يتخذ منه راية في أرض العدو.
قال محمد بن رشد: أما اتخاذ الراية فلا اختلاف في جواز ذلك، وأما لباسه عند القتال، فقد أجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون، وروايته عن مالك؛ لما عندهم في ذلك من المباهاة بالإسلام، والإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من النبل وغيره من السلاح؛ أو هو قول محمد بن عبد الحكيم، وحكاه ابن شعبان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه من أنه قال «من قتل عصفورة فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتلها، قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال: تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها». ولهذا قال أبو بكر الصديق، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليزيد بن أبي سفيان إذ شيعه إلى الجهاد: ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة 48 وما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نهيه عن المثلة، وبالله التوفيق.

.مسألة يغل في أرض العدو ثم يتوب:

قال: وسئل مالك عن الرجل يغل في أرض العدو، ثم يتوب ويرد ما غل؛ أترى أن يعاقب؟ قال: ما سمعت فيه بشيء، ولو فعل ذلك به لكان لذلك أهلا؛ قال ابن القاسم: إذا جاء تائبا، لم أر عليه أدبا؛ قال كالمرتد والراجع عن شهادة شهد بها.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة- عندي- إذا تاب قبل القسم، ورد ما غل في المغانم، فحينئذ يسقط عنه الأدب، عند ابن القاسم وسحنون، كالمرتد والراجع عن شهادة شهد بها عند الحاكم قبل الحكم؛ وقول مالك لو فعل به ذلك لكان له أهلا، هو مثل ما في كتاب السرقة من المدونة في الشاهد يرجع عن شهادة شهد بها قبل الحكم، ويدعي الوهم والتشبيه، ولا يتبين صدق قوله؛ وأما لو تاب بعد القسم وافتراق الجيش، لما سقط عنه الأدب عند جميعهم على قولهم في الشاهد يرجع عن شهادته بعد الحكم بها؛ لأن افتراق الجيش مي معنى نفوذ الحكم، بل هو أشد! إذ قد يقدر أن يغرم للمحكوم عليه ما أتلف عليه بشهادة، ولا يقدر أن يوصل إلى الجيش بعد افتراقه ما وجب لكل واحد منهم من المال الذي غل؛ قال مالك في كتاب ابن المواز: ولو ظهر عليه قبل أن يتوب أدب وتصدق به إن افترق الجيش، وإن لم يفترق رد في المغانم؛ وقال الليث إن لم يعرف الجيش جعل خمسه في بيت المال وتصدق بما بقي، وقال عبد المالك وأصبغ وسهمه فيه قائم كيف كان.

.مسألة يدفع المال إلى من يغزو به:

ومن كتاب طلق بن حبيب:
وسئل عن الرجل يجعل المال في سبيل الله بالمدينة، فيجد من يخرج؛ أفأحب إليك أن يعطى قوم يخرجون من ههنا، أم يبعث به إلى المصيصة فيعطى؟ ثم قال: أحب إلي إن وجد من يثق به هاهنا أن يدفع إليه ذلك، ولا يؤخره إلى المصيصة، ولعله يبعث به إلى هناك فيضيع.
قال محمد بن رشد: يبين في هذه المسألة وجه استحبابه في أن يدفع المال إلى من يغزو به من هنا، ولا يبعث به إلى المصيصة، فذلك مفسر لقوله في أول رسم من هذا السماع.

.مسألة يعطيه الفرس ليتقو به في سبيل الله فيغزو عليه ثم يموت فيطلبه صاحبه:

وسئل مالك عن الرجل يعطي الرجل الفرس فيقول له تقو به في سبيل الله، فيغزو عليه، ثم يموت، فيطلبه الرجل؟ فقال: كيف يأخذه وقد مات الذي أعطيه؟ قيل له إن صاحبه يقول إنما أعطيته ليتقوى به في سبيل الله ولم أبتله؟ قال مالك: ذلك له هو أعطاه وهو أعلم بنيته؛ وسئل مالك عن الرجل يعطي الشيء في سبيل الله فيغزو فيه وتفضل منه الفضلة، أتراها له؟ قال: بل أرى أن يردها إلى صاحبها، أو يجعلها حيث جعل ذلك؛ فقيل له: فالرجل يغزو وينفق على أهله، فقال يعطى الشيء في سبيل الله، ثم يشتري به الدجاج والقمح ويقعد يأكله؛ ما أرى ذلك له، ولقد كان هاهنا رجال من أهل الفضل والخير يعطون الشيء في سبيل الله فلا يقبلون.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هاتين المسألتين مستوفى في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته، وفي قوله في آخر المسألة ولقد كان هاهنا رجال من أهل الفضل والخير يعطون الشيء في سبيل الله فلا يقبلون، دليل على أنه قد كان منهم من يقبل ذلك؛ وهذا في أهل الغناء، منهم: من كره ذلك ورأى الغزو بماله أعظم لثوابه، ومنهم من لم ير بأسا أن يقبل ما أعطي من غير مسألة؛ فإن احتاج إليه أنفقه، وإن استغنى عنه فرقه في السبيل؛ وأما الضعيف الفقير فقبول ما أعطي من غير مسألة أفضل بإجماع، لما في ذلك من إعلاء كلمة الله بالقوة على الجهاد في سبيل الله.

.مسألة يريد أن يخرج إلي المصيصة يجاهد بها وعليه دين:

وسأل رجل مالكا فقال له: إن علي ألفا وستمائة درهم لناس شتى، في أقطار الأرض، منهم من قد مات، وله ورثة، ومنهم من هو حي، ومنهم من قد مات- ولا أعرف له ورثة؛ والذي لهم علي يختلف، منهم من له المائة درهم، والخمسون، والألف، وأقل من ذلك وأكثر؛ وهم في بلدان شتى، وقد عجزت عنه، وطلبت فيه نحوا من ثلاثين سنة. فلم أقو على أدائها، ولم أرزق شيئا، فأحببت أن أخرج إلى المصيصة فأجاهد بها، فإن يدركني بها موت، فأحب المواضع إلي؛ وإن أرزق بها شيئا قضيت بها ديني؟ قال مالك: ما أرى بأسا، وأمره أن يفعل ذلك، وأن يخرج إليها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الذي عليه الدين، إذا كان عديما، فله أن يغزو بغير إذن الذي له عليه الدين؛ إذ لا منفعة للذي له عليه الدين في تركه الغزو، وقد يرزق في الغزو ما يودي به الدين عن نفسه، ففي الغزو منفعة له ولصاحب الدين، وأما من عليه دين وهو مليء فلا يجوز له أن يغزو بغير إذن صاحب الدين، إلا أن يكون الدين الذي عليه لم يحل بعد، فيوكل من يقضيه عنه عند حلوله، قاله سحنون في كتاب ابنه، وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك، أنه كان يوسع لمن عليه دين أن يغزو إذا خلف وفاء من دينه، أو أذن له غرماؤه بالخروج، وإن لم يدع وفاء من دينه، فظاهر قوله أنه ليس عليه أن يستأذن غريمه، إلا إذا لم يدع وفاء وهو بعيد.

.مسألة يقول له اشتر هذا الفرس وأحملك عليه فلا يدري ما يبلغ من الثمن:

ومن كتاب أوله سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال ابن القاسم: وكره مالك أن يقول الرجل للرجل اشتر هذا الفرس وأحملك عليه، فلا يدري ما يبلغ من الثمن حتى يوقت له ثمنا، قال سحنون أراه جائزا وليس له معنى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تكلم عليها ابن لبابة في منتخبه فقال: فيها الكراهة لمالك، والتعليل بجهل مبلغ الثمن لابن القاسم، وتعليل ابن القاسم ليس بشيء؛ لأن من وكل رجلا أن يشتري له سلعة بعينها، أو مسماة بغير عينها، ولم يسم له ما يشتريها به، فاشتراها له بما يشبه من الثمن لزمه، وكراهة مالك صحيحة بينة على مذهبهم؛ لأنه استأجره على ابتياع الفرس بحمله عليه، فإن كان بتله له، فقد أوجبه له في أجرته قبل أن يملكه، ولا يجوز لأحد أن يبيع ما ليس في ملكه، ولا أن يستأجر به، وإن كان لم يبتله له وإنما أعطاه ركوبه، دخله مع ذلك أيضا الغرر، إذ لا أمد للركوب؛ هذا معنى قول ابن لبابة دون لفظه، وليس قوله- عندي- بصحيح؛ بل لا وجه للكراهة إلا ما عللت به من الجهل بمبلغ الثمن، وهي كراهة ضعيفة؛ ولذلك أجاز سحنون المسألة ولم ير لكراهيتها معنى، وبيان هذا أن الفرس لم يأمر الرجل أن يشتريه له،- أعني الأمر إذا لم يقل له اشتر لي هذا الفرس وأحملك عليه، وإنما قال: اشتر هذا الفرس وأحملك عليه، فإنما أمره أن يشتريه للسبيل ويحمله عليه، فهو بنفس الشراء يجب للسبيل ويكون المشتري أحق بركوبه في السبيل من غيره، وإن كان بتله له، فلم يأمره أيضا أن يشتريه له، وإنما أمره أن يشتريه لنفسه؛ فهو بنفس الشراء يجب للمشتري كالآمر؛ فإن سمي له الثمن، لم يكن لكراهة ذلك وجه؛ لأنه بمنزلة من قال لرجل اشتر لنفسك فرس فلان بعشرة مثاقيل والثمن علي؛ وإذا لم يسم له الثمن، دخلته الكراهية، إذ لا يدري المأمور بما رضي الآمر أن يشتريه به، ولعله سيقول له إذا اشتراه لم أرد أن يشتريه بهذا الثمن؛ وقد كنت قادرا على أن تشتريه بأقل مما اشتريته به، فتعديت علي وقصدت إلى الإضرار؛ فيقع في ذلك بينهما خصومات، فهذا وجه الكراهية في ذلك عند مالك رَحِمَهُ اللَّهُ.

.مسألة فرس اعتل على صاحبه بأرض العدو:

وسئل مالك عن فرس اعتل على صاحبه بأرض العدو، قال مالك: يعقره ولا يتركه واثقا ذبحه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم حلف بطلاق امرأته قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يعطى الفرس في سبيل الله أو السلاح هل يقبله:

ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال:
وسئل مالك عن الرجل يعطى الفرس في سبيل الله، أو السلاح؛ أترى أن يقبله؟ قال: إن كان غنيا عنه، فلا أرى له ذلك؛ وإن كان محتاجا إليه، فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: قد تقدم في رسم طلق ذكر اختلاف أهل العلم في الأفضل في ذلك للغني على أن ينفقه إن احتاج، وإلا جعله في السبيل، وأما المحتاج، فالاختيار له قبول ما أعطي في السبيل من غير مسألة قولا واحدا.

.مسألة ينتقل إلى الساحل وفيها دار قد جعلت في سبيل الله أيسكنها أم لا:

ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان المضمون قال:
وسئل مالك عن الرجل ينتقل إلى الساحل وفيها دار قد جعلت في سبيل الله، أترى أن يسكنها؟ قال مالك: إن كان غنيا عنها، فأحب إلي أن يسكن غيرها؟ وإن كان سكنها، لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن الاختيار للغني ألا يسكنها، فإن سكنها لم يكن عليه في ذلك حرج؛ وهذا إذا كان فيها فضل عن سكنى المحتاجين من أهل السبيل، وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا ما يدل على أن الاختلاف لا يدخل في هذا.

.مسألة المال يجعل في سبيل الله أيعطى منه المرضى:

وقال مالك: في المال يجعل في سبيل الله، أيعطى منه المرضى؟ قال: نعم- في رأيي، ويستأذن صاحبه في ذلك؛ فقيل له يا أبا عبد الله، إنها وصية؟ فقال: الله أعلم وكأني رأيته يريد أن يخففه، ولم يبين لنا فيه شيئا، قال ابن القاسم: ولا أرى بذلك بأسا، إلا أن يكون المريض قد أيئس منه، أو يكون به ضرر، مثل المفلوج، والأعمى، وما أشبهه الذي لا قتال عنده؛ فلا أرى أن يعطوا ذلك؛ وسئل مالك عن الرجل يعطى المال في سبيل الله يفرقه، فيكون في الثغر غلمان قد راهقوا الحلم، ورموا عن القسي- ولم يحتلموا وقد راهقوا؛ أترى أن يعطوا منه شيئا؟ قال: لا- وغيرهم أحب إلي، قال ابن القاسم: فقيل له فلو قاتلوا أترى أن يسهم لهم؟ فقال: نعم- إذا بلغوا مبلغ القتال وقاتلوا، ولا يعطوا من المال الذي يجعل في سبيل الله حتى يحتلموا.
قال محمد بن رشد: أما المريض الذي ترجى إفاقته، فلا اختلاف في أنه يسهم له ويعطى من المال الذي يجعل في السبيل؛ وأما المريض الذي قد يئس منه والمفلوج، وشبههما؛ فلا اختلاف في أنه لا يسهم لهم إلا أن يصيبهم ذلك بعد وجوب السهم لهم، ولا يعطون من المال الذي يجعل في السبيل؛ وأما الأعمى فلا يعطى من المال الذي يجعل في السبيل. واختلف هل يسهم له أم لا؟ فروى محمد بن سحنون عن أبيه أنه يسهم له، والذي تدل عليه الرواية أنه لا يسهم له؛ وكذلك المقعد، والمرأة، والصبي- إذا بلغا مبلغ القتال وقاتلا، لا يعطوا من المال الذي يجعل في السبيل شيئا؛ واختلف هل يسهم لهم، فروى محمد بن سحنون عن أبيه في المقعد أنه يسهم له؛ لأنه يقاتل راكبا؛ وقال ابن حبيب في الصبي المراهق، والمرأة- إذا قاتلا أنه يسهم لهما، مثل ما قال هاهنا في الصبي الذي قد بلغ مبلغ القتال وقاتل، خلاف ما في المدونة فيهما جميعا؛ وأما المقطوع إحدى الرجلين، أو المقطوع اليد اليسرى، فإنه يسهم لهما ولا يعطيان من المال الذي يجعل في السبيل شيئا.

.مسألة أبقت منه جاريته فأخذها المشركون ثم باعوها من رجل من المسلمين:

وسئل مالك عن رجل يكون في أرض المشركين، فأبقت منه جاريته فأخذها المشركون، ثم باعوها من رجل من المسلمين- والمشتري يعرف أنها للرجل؛ قال: قال مالك: إن عرفها فليردها إلى صاحبها، قال ابن القاسم، يريد بالثمن وهو رأيي؛ قال ابن القاسم: وهو مصدق في الثمن، إلا أن يأتي بأمر يستنكر حتى يستدل على كذبه حيث لا يشك في كذبه، فيأخذها بالقيمة؛ لأن مالكا قال: ما أبق من المسلمين إلى العدو من رقيق المسلمين، فهو مثل ما أسر؟ وإذا وقعت فيه المقاسمة، فلا شيء لصاحبه، إلا أن يشاء أن يفتديه بالثمن الذي بيع به.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن صاحب الجارية أحق بها بالثمن الذي اشتريت به، أو وقعت به في المقاسم؛ إن شاء أن يأخذها بذلك، وسواء أبقت إليهم، أو غلبوا عليها؛ هو قول مالك في المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك في المذهب؛ وقول ابن القاسم إنه مصدق في الثمن إلا أن يأتي بأمر يستنكر حتى يستدل على كذبه حيث لا يشك في كذبه، فيأخذها بالقيمة؟ مبين لقول مالك، إلا أنه قول مجمل إذ لم يبين فيه هل يصدق بيمين أو بغير يمين، وتفسير ذلك أنه إن ادعى من الثمن ما يشبه، فهو مصدق دون يمين؟ وإن ادعى ما لا يشبه صدق بيمين، وإن ادعى ما يستنكر حتى لا يشك في كذبه، أخذها ربها بالقيمة- يريد قيمتها يوم اشتراها في الموضع الذي اشتراها فيه من بلد العدو- إن عرفت قيمتها بذلك الموضع، وإن جهلت قيمتها بذلك الموضع، ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع الذي تعرف قيمتها به دون يمين أيضا؛ وهذا إن لم يدع صاحبها معرفة ما اشتراها به المشتري، وأما إن ادعى معرفة ذلك فتداعيا فيه واختلفا، فالقول قول المشتري مع يمينه- إن أتى بما يشبه؛ فإن أتى بما لا يشبه، كان القول قول صاحبها- إن أتى بما يشبه؛ فإن أتى أيضا بما لا يشبه، حلفا جميعا وأخذها بالقيمة على ما ذكرناه من الموضع الذي تقوم فيه؛ وإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما، وإن أتى بما لا يشبه لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله؛ وهذا التفصيل الذي ذكرناه في هذه المسألة مبني على اختلاف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص الذي فيه الشفعة، فهو قائم من مسألة الشفعة في المدونة، ومن سماع أشهب من كتاب الشفعة؛ لأن العلة في كون القول قول المشتري في المسألتين جميعا، كون الشيء المدعى فيه بيده؛ فقف على ذلك، وسيأتي في آخر رسم الجواب من سماع عيسى في اختلاف الفادي والمفدي في الفدية ما فيه بيان لهذا- والله الموفق.

.مسألة يعطى الشيء في السبيل مثل الفرس يحمل عليه:

ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما المال:
وسألت مالكا عن الرجل يعطى الشيء في السبيل، مثل الفرس يحمل عليه، أو الدنانير يعطاها قال مالك: أما الوالي، فإني لا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: يعني الخلفاء، وأما غيرهم فلا يجوز الأخذ منه؛ وأما الناس بعضهم لبعض، فإن كان غنيا فلا أحب ذلك له وتركه أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في تفسير قول مالك صحيح؛ لأن الخلفاء إليهم الاجتهاد في إعطاء مال الله وقسمته، فجائز لمن أعطوه شيئا في السبيل أن يقبله، وأما من دونهم من العمال، فلا يجوز لأحد أن يأخذ منهم شيئا؛ لأنهم مضروب على أيديهم، وكذلك الولاة، إلا أن يكون الخليفة قد فوض إليهم النظر في قسمة المال وإعطائه، فينزلون في ذلك منزلته، ويجوز الأخذ منهم؛ وقد مضى في رسم طلق بن حبيب، ورسم أخذ يشرب خمرا الكلام في إعطاء الناس بعضهم بعضا المال في السبيل، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة من تجهز للغزو إذا بدا له أن يقيم أيدفع جهازه إلى غيره:

ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية:
وسئل مالك عن الذي يتجهز للغزو إذا بدا له أن يقيم، أيدفع جهازه إلى غيره؟ قال: إني لأحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب ذلك له ولم يوجبه عليه؛ لأنه نوى أن ينفقه في سبيل الله، فكره له أن يرجع فيما نوى- ولم ينذر نفقته في السبيل، فيكون ذلك عليه واجبا بالنذر؛ ولو بدا له أن يؤخر خروجه إلى غزوة أخرى، لأمر أن يرفع جهازه حتى يغزو به؛ إلا أن يخشى عليه الفساد، فيبيعه ويرفع ثمنه حتى يغزو به؛ إلا أن يكون موسرا يجد مثل جهازه إذا أراد الغزو فيفعل بجهازه ما أحب؛- قاله مالك في موطئه في الذي يريد الغزو فيمنعه أبواه أو أحدهما، وهذا مثله سواء، وبالله التوفيق.

.مسألة أموال الرهبان وعبيدهم وزروعهم يمر بهم الجيش:

وسألته عن أموال الرهبان وعبيدهم وزروعهم يمر بهم الجيش، فقال: لا أرى إذا علموا أنها للرهبان، أن يمسوا منه شيئا ولا يهيجوه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة، فلا معنى لإعادته.

.مسألة الجاسوس من المسلمين يؤخذ وقد كاتب الروم:

ومن كتاب البز:
وسئل مالك عن الجاسوس من المسلمين يؤخذ وقد كاتب الروم وأخبرهم خبر المسلمين، ماذا ترى فيه؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، وأرى فيه اجتهاد الإمام. قال ابن القاسم: أرى أن تضرب عنقه، وهذا مما لا تعرف له توبة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم صحيح؛ لأن الجاسوس أضر على المسلمين من المحارب، وأشد فسادا في الأرض منه؛ وقد قال الله تعالى في المحارب: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]- الآية. فللجاسوس حكم المحارب إلا أنه لا تقبل له توبة باستخفافه بما كان عليه، كالزنديق، وشاهد الزور؛ ولا يخير الإمام فيه من عقوبات المحارب، إلا في القتل والصلب لأن القطع أو النفي لا يرفعان فساده في الأرض وعاديته على المسلمين عنهم؛ وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول مالك: أرى فيه اجتهاد الإمام أي بين أن يقتله أو يصلبه؛ ومما يدل على وجوب القتل عليه، أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما قال في حاطب بن أبي بلتعة، إذ كتب إلي أهل مكة يخبرهم بقصد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إليهم، فأوحى الله تعالى بذلك إليه: دعني أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، ولم ينكر عليه النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قوله، ولا قال له إن ذلك لا يجب في ذلك الفعل؛ وإنما أخبر أنه لا يجب على حاطب، لكونه من أهل بدر، مع قبوله لعذره والذي اعتذر به لعلمه بصدقه في ذلك من جهة الوحي؛ فذلك خصوص له، لا يشاركه فيه غيره، ولا يقاس عليه.

.مسألة أعطى سوارين في سبيل الله في الحضر فأراد أن يبيعهما قبل أن يخرج:

وسئل مالك عن رجل أعطى سوارين في سبيل الله في الحضر، فأراد أن يبيعهما قبل أن يخرج، وقبل أن يبلغ رأس مغزاه، يتقوى بثمنهما في سبيل الله؛ فقال: لا بأس بذلك، وإنما ذلك بمنزلة ما لو أعطى من الدنانير والدراهم ما يتقوى بها ويتكارى ويأكل منها؛ فقيل له أفيخلف لأهله منها نفقة، قال لا آمره أن يتخلف من ذلك عندهم شيئا.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول عليها موعبا في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادة ذلك.